ورد لفظ الوسطيَّة صريحاً في القرآن الكريم في عدَّة مواضع، كما ورد بتصاريفه المُتعدِّدة: وَسطاً، أوسط، وأوسطُهم، وفي مواضع ثانية جاءت الوسطيِّة بألفاظٍ أخرى مختلفة، ومن المواضع الصَّريحة في ذكر الوسطيَّة في القرآن الكريم، قوله -تعالى-: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)،[١٤] وقال المفسِّرون في تفسير هذه الآية أنَّ الأمَّة الإسلاميَّة هي الأمَّة الوسط بكلِّ معاني الوسط؛ سواءً كان هذا الوسط بمعناه الماديّ الحِسّيِّ، أو الوسط بمعنى الاعتدال والاقتصاد، أو الوسط في التَّصورات والاعتقادات، أو الوسط في المشاعر والعلاقات، وفي كل الأمور قاطبة، والوسط هو العدل والأفضل دائماً؛ لأنَّه يتوسَّط بين الإفراط والتَّفريط، وقال بعض المفسِّرون إنَّ معنى وسط يُقصد به الوسط في الإيمان والاعتقاد.[١٥][١٦] ولا بدَّ أن يكون الوسط بين طرفين مختلفين في الاتجاه، فهذه الأطراف هي طرفٌ نفى وجود الإله، والطَّرف الآخر من أسرف بتعدُّد الآلهة، وكلِا الطَّرفين مُخطئ، وأمَّا عقيدة الإسلام فتتضمَّن شهادة التَّوحيد؛ لتُعلن أنَّ هناك إلهاً خالقاً للكون، ولكنَّه واحدٌ ولا شريك له، وهي وسطٌ في الشَّريعة أيضاً؛ فلا هي مُتضمِّنة للتشديدات، ولا هي مُتهاونة في الأحكام، بل جاءت وسطاً بين هذا وذاك،[١٥][١٦] ولكلمة الوسطيَّة مرادفات عديدة؛ منها الاعتدال، والقَوام، والانتصاف، والاستقامة، وبيان ذلك فيما يأتي:[١٧] الاستقامة: ورد لفظ الاستقامة في عدَّة مواضع في القرآن الكريم، منها قوله -تعالى-: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)،[١٨] والمقصود بالصِّراط دين الإسلام وكلُّ ما يشملُه من عقائد، وتشريعات، وعبادات، ومُعاملات، وأخلاق، وغيرها، ووُصف بأنَّه مستقيم؛ لأنَّ الطَّريق المُستقيم هو أقصر الطُّرق بين النُّقطيتن، والذي يُوصل إلى الغاية المَرجوَّة منه، كما أنَّ هذا الصِّراط المستقيم فيه اعتدالٌ ووسطيَّة، دون إفراطٍ ولا تفريط، فهو مَستقيمٌ بلا غُلوٍّ، وهذا أحد معاني الوسطيَّة الذي وُصفت به هذه الأمَّة. الخَيريَّة: وهي مُشتملة لكلِّ ما يَرغب فيه الجميع، من عدلٍ وفضيلةٍ وغيرها، حيث نَجدها في قول الله -سبحانه وتعالى-: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ)،[١٩] وفي هذا دلالةٌ على أنَّ الأمَّة الإسلامية خيرُ الأُمم، وأُناسها خير النَّاس للنَّاس نُصحاً، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، ودعوةً لله -سبحانه وتعالى-، وهذه الخيريَّة التي وصف الله -تعالى- الأمَّة الإسلاميَّة بها هي الوسطيَّة التي لا تحتوي على شَططٍ ولا غُلوٍّ، بل مقيَّدةٌ بشرع الله -تعالى- ومنهجه في جميع شؤونها،. العدل: والذي يعني المُساواة، وقد ورد ذكره في قول الله -تعالى-: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)،[٢٠] ويقتضي العدل فضّ النِّزاعات والخُصومات بحسب ما جاء في كتاب الله -تعالى- وسنَّة نبيّه -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه بلا إفراطٍ ولا تفريط. لفظ القَوام: ومنه قوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)،[٢١] والقَوام هو الشَّيء الذي يكون وسطاً بين أمرين، ومن ذلك إنفاقُ المؤمن بين الإسراف والإمساك، وكلُّ شرع الله -تعالى- وسطاً.
الوسطية في السنة النبوية
هناك العديد من الأحاديث النبويَّة التي تُثبت مشروعيَّة الوسطيَّة في الإسلام، وتدلُّ دلالةً صريحةً عليها؛ من هذه الأحاديث حديثُ أنس بن مالك -رضي الله عنه- حيث قال: (جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهِم، فَقالَ: أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا، أما واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي)،[٢٢] حيث يُظهر هذا الحديث جانب الوسطيَّة والاعتدال حتى في نطاق العبادات والتَّقرب من الله -سبحانه وتعالى-، ليتمكَّن المسلم من أداء كلِّ الواجبات التي عليه تجاه نفسه والآخرين ممن حوله وتجاه خالقه، فيتحقَّق بعدها التَّوازن في حياته.[٢٣] كما أنَّ الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- حذَّر من الغُلوِّ في أحاديث أخرى: (إياكم والغُلُوَّ في الدينِ، فإِنَّما هلَكَ مَنْ كانَ قبلَكُم بالغُلُوِّ في الدينِ)،[٢٤] والمقصود بالغُلوّ التَّشدُّد ومُجاوزة الحدِّ، أي أنَّه خلاف معنى الوسطيَّة والاعتدال، ومن نِعم الله -تعالى- على البشريَّة أن بَعث الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-، واختصَّه من الأنبياء ليكون خَاتمهم، وجعل كلَّ صفاته وأعماله مُتَّصفة بالاعتدال والوسطيَّة، ولم يجعل في هَديه أيّ تشدُّدٍ أو غُلوٍ يُرهق المسلمين، بل على العكس كان مَجيئه رحمةً مُهداةً للعَالمين جميعاً، خير النَّاس خلقاً، وعدلاً، ورحمةً، وتواضعاً، لذا وجب على مَن آمن به الاقتداء به، واقتفاء هَديه، والتَّجمُّل بالتَّوسط، والابتعاد عن كلِّ مافيه تشدّدٌ وغُلوٌّ، فلن يعود هذا التَّشدد على أحدٍ بخير، لا على صاحبه ولا على غيره.[٢٥]